الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم إن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور: {فليعتنوا} أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتني ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبي: الدلالة عليه من السباق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبي حيان: إن ذلك إضمار لا دليل عليه مما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد: {اثنين قُلْ} مدلولًا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن: {قُلْ} تمنع من ذلك، وذلك على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو المجئ أي فبمجئ المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجئ القرآن من الفضل والرحمة دخولًا أوليًا وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن.وأخرج أبو الشيخ. وابن مردويه عن أنس قال قال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله» وروي ذلك عن البراء. وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفًا. وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور.وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.وأخرج الخطيب. وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل: المراد بهما الجنة والنجاة من النار.وقيل غير ذلك، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولًا بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى.وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ: {فلتفرحوا} بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناءً على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعًا، وقرأ بها أيضًا ابن عباس وقتادة وغيرهما. وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحًا به إيذانًا بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحًا قوله سبحانه: {يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الصمد: 4] من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى، وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن شرح اللب في توجيهه أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل: وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول.وقرئ: {فافرحوا} وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل.وقرئ: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} بكسر اللام: {هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من الأموال والحرث والإنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة.ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعًا إلى المصدر أعني المجئ الذي أشير إليه و: {مَا} تحتمل الموصولية والمصدرية.وقرأ ابن عامر: {تجمعون} بالخطاب لمن خوطب: {يا أَيُّهَا الناس} [يونس: 57] سواء كان عامًا أو خاصًا بكفار قريش، وضمير: {فَلْيَفْرَحُواْ} للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة: {فلتفرحوا}، {وافرحوا} يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضًا التفاتًا، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه. اهـ.
ضمير (أحرزوا) عائد إلى المشركين الذين عاد إليهم الضمير في قوله: (جمعهم).وضمير (جمَّعوا) عائد إلى المسلمين، أي لولا نحن لغنم المشركون ما جمَعه المسلمون من الغنائم، ومنه قوله تعالى: {وعمروها أكثر مما عمروه} في سورة [الروم: 9].وعلى هذا الوجه يظهر معنى القصر أتمّ الظهور، وهو أيضًا المناسب لحالة المسلمين وحالة المشركين يومئذٍ، فإن المسلمين كانوا في ضعف لأن أكثرهم من ضعاف القوم أو لأن أقاربهم من المشركين تسلطوا على أموالهم ومنعوهم حقوقهم إلجاء لهم إلى العود إلى الكفر.وقد وصف الله المشركين بالثروة في آيات كثيرة كقوله: {وذرني والمكذبين أولي النَّعْمة} [المزمل: 11] وقال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 14، 15] وقال: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} [آل عمران: 196، 197]، فلعل المشركين كانوا يحتقرون المسلمين كما حكي عن قوم نوح قولهم: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} [هود: 27].وقد قال الله للنبيء صلى الله عليه وسلم: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} إلى قوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53] حين قال له المشركون: لو طردت هؤلاء العبيد من مجلسك لجلسنا إليك، فكمدهم الله بأن المسلمين خيرٌ منهم لأنهم كملت عقولهم بالعقائد الصحيحة والآداب الجليلة.وهذا الوجه هو المناسب للإتيان بالمضارع في قوله: {يجمعون} المقتضي تجدد الجمع وتكرره، وذلك يقتضي عنايتهم بجمع الأموال ولم يكن المسلمون بتلك الحالة.والمعنى أن ذلك خير مما يجمعه المشركون مع اتصافهم بالشرك لأنهم وإن حصلوا ما به بعض الراحة في الدنيا فهم شرار النفوس خساس المدارك.وقرأ الجمهور: {يجمعون} بياء الغيبة فالضمير عائد على معلوم من الكلام، أي مما يجمع المشركون من الأموال.وقرأه ابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {مما تجمعون} بتاء الخطاب فيكون خطابًا للمشركين الذين شملهم الخطاب في أول الآية بقوله: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس: 57]، فإنه بعد أن عمم الخطاب خص المؤمنين بالذكر وبالجدارة بالفرح، فبقي الخطاب لمن عدا المسلمين وهم المشركون إذ ليس ثم غير هذين الفريقين من الناس هنالك.ولا يناسب جعل الخطاب للمسلمين إذ ليس ذلك من شأنهم كما تقدم آنفًا، ولأنه لا يظهر منه معنى التفضيل إلا بالاعتبار لأن المسلمين قد نالوا الفضل والرحمة فإذا نالوا معهما المال لم ينقص ذلك من كمالهم بالفضل والرحمة.وقد أجملت الآية وجه تفضيل هذا الفضل والرحمة على ما يجمعونه لقصد إعمال النظر في وجوه تفضيله، فإنها كثيرة، منها واضح وخفي.وينبئ بوجه تفضيله في الجملة إضافتُه الفضل والرحمة إلى الله وإسناد فعل: {يجمعون} إلى ضمير: {الناس} [يونس: 57].وهذا الفضل أخروي ودنيوي.أما الأخروي فظاهر، وأما الدنيوي فلأن كمال النفس وصحة الاعتقاد وتطلع النفس إلى الكمالات وإقبالها على الأعمال الصالحة تكسب الراحة في الدنيا وعيشة هنيئة.قال تعالى: {يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مَرضية} [الفجر: 27، 28] فجعل رضاها حالًا لها وقت رجوعها إلى ربها.قال فخر الدين: والمقصود من الآية الإشارة إلى أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية، فيجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية لأن اللذات الجسمانية ليست غير دفع الآلام عند جمع من الحكماء والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به. وعلى تقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية فإنها لا تكون خالصة البتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره وهي لا تكون باقية، فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد. ثم إن عدم دوامها يقتضي قصر مدة التمتع بها بخلاف اللذات الروحانية. اهـ.
|